لماذا أنت جاد هكذا؟


 

 حين تسحب الشمس ذيول ثوبها، ويسدل الليل ستائره، وأجلس أمام كتبي شاردًا في مشهد لا يصفه سوى عبارة ( اسأل عن اللي يقضي الليل بين الأمل وبين الذكرى) حينها أشعر بأن مخاوفي تتجمع عليّ، ربما يكون للذكرى نصيبٌ إلا أنها لم تكن أبدًا كحجم مخاوفيّ وأمالي.

 إذ ما سألني أحدٌ هل تخشى المستقبل ستكوني إجابتي ( قطعًا لا)...كيف أخشى المستقبل وأنا أملك بداخلي كل الطرق الممكنة حتى وإن كتب الله طريقًا أخر حينها سأوفق فيه بالطبع لأن الله قد اختاره،  إنما أخشى الوحدة، والتظاهر بالقوة،أشعر بأنني  في حاجة لأيادٍ ناعمة تلمس قلبي، وتقول في صوت  ناعمٍ ( أنا هنا)

 إن الإنسان في حاجة لمن يطمئنه دائمًا، لمن يلامس قلبه بأيدٍ خضراء يربت على كتفيه ويتسلح بلماساتها، تقول لي ( أتعلم؟ أتملص من الماضي لأن فيه ذكرى أليمة ما تنفك تُقرح داخلي، وأخشى الحاضر لأني أحمل هموم المستقبل، وأخشى المستقبل لأني ربما لا أقدم له في الحاضر).

 ربما إن كنت أنا في حالتي الطبيعية لقلت لك ما الماضي إلا ذكري وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فمنه العظة والعبر، والحاضر ما هو إلا مستقبل الماضي فما عملنا له ولكن نجاريه الآن، والمستقبل ماضٍ آتٍ، كلهم مراحل وكلهم مُجتازون، إنما الأمر هو مقاومة الخوف.

 أتعلمين؟ تصيبني نوبات الهلع -أحياناً- تلك اللحظات تخنقني، وأصبح متشائمًا، لهذا أظن أن الإنسان في حاجة دائمًا لغيره، للحق أشهد فلقد سئمت من الشعور بالوحدة، أود ذات يوم استيقظ أجد أحدهم يقول لي (أحبك وأثق بك) عندما أكون خائفًا لكي تنجلي لحظات الخوف.

 أني اتسائل كيف سيكون حالي إذا ما قالها أحدٌ لي؟ أثق بك..كيف وقعت على أذن من سمعها؟ هل سهر الليل كله فرحًا؟ كيف نام؟ كيف انتهت رحلته؟ كيف عاش بعدها، إن طبيعة البشر تميل لمن يشعرها بقوتها، حتى أن كنت عزلت نفسيّ عن البشر، الأهل، والأصدقاء لما وجدت فيه من راحة فأني أحيانًا في حاجة لسماع أثق بك.

 لكني اكتفيت، كنت أسأل عن مصدر قوتي التي جعلتني أجتاز هذه الليالي الصعبة التي مررت بها في صفي الثاني الجامعي! كيف قضيت أغسطس وباله الطويل، وسبتمبر وحزن لياليه، وأكتوبر وغيومه، كيف لي ومن أين القوة التي جعلتني أتجاوز؟ ربما بعدها لم أصبح كما كنت لكنني كنت قويّ أو ربما تظاهرت بذلك.

  في مثل هذا الوقت العام الماضي كانت الأمور بحالٍ مختلفة، كيف تسَنّ لي تجاوزها دون إظهار ضعفٍ، أحيانًا يقرف الإنسان من فكرة كونه قويًا، ربما يحتاج لحضن دافئ يقول له ( كن هادئًا )، ربما يحتاج لملاذٍ آمن يظهر فيه نقاط ضعفه، لمن يسمع مخاوفه ويطمئن قلبه، من منظوري سئمت وجهي الباسم وخفة دمي وحديثي السخيف مع أصدقائي وأنا بداخلي مخاوف وهموم لا تنفك تقتتل.

 ربما فكرت مراتٍ أنه نتاج وآثار ما تجاوزته في صفي الثاني الجامعي، حينها لم أجد شخصًا تتطاير قوتي أمامه كتطاير أولاد الحَجَلِ...أن كل ما يتخطاه المرء لابد أن يترك ندبة، لكن إن كان الأمر كذلك فلمَ بعد عام ونصف أشعر هكذا؟ ربما كان الأحرى أن يصيبني خوف الفشل حينها، وضعفي حيلتي وغياب ملاذي...لكن الآن لا أدري لمَ!

 قررت أن أكون وحيدًا،أن أخذ بيدي بنفسي، هجرت أصدقائي، أصبحت رؤيتي لأي أحد يعلمني وأعلمه مصدر توتر وخوف بالنسبة لي، فما إن تنتهي دروسي في كليتي وتحديدًا الآن في مستشفى الأمراض الباطنة بالقصر العيني حتى أهرول تجاه مترو الأنفاق لأعود إلي غرفتي.

 لا أريد أن يراني الناس دائمًا مبتسمًا، مللت من إخبار صديقي أنني خائف، لست على ما يرام أحتاج إلى...حتى يقطعني -دون أن يستمع لبقية حديثي- ويهم يقول لي: ماذا بك؟ لا تعظم الأمر، إنك تمثل لقد كنت تضحك معنا.

 يقول صديقي ( لماذا أراك متوترًا) لم أجب، ثم قطعت الصمت بأني جائع، ذهبنا لنطلب طعامًا من كافيتريا...كانت هناك مجموعة فتيات حمقاوات يقفنّ، سمعت إحداهن تقول لزميلتها بالإسبانية على أمل ألا أفهمها – ولديها حق فأتحدي أن يوجد بالقصر العيني كله أحدٌ يفهم الإسبانية إلا قليلٌ- " لماذا هو جاد هكذا؟" كنت حينها على وشك أن أصيح بها ولكنني ابتسمت لها لتعلم أني أفهمها.🟏

  تلك الحمقاء لا تدري شيئًا عن مدى ما بداخلي، أن أعامل الناس وكأن ليس بي مكروه، وكأني أعيش حياة هادئة مسالمة، ربما لقوة أن تخالف باطنك لكن الإناء امتلأ الآن...دعها تخبرني كيف يمكن للإنسان أن يكون هكذا طوال الوقت؟ إن هناك ميقات ينفجر فيه الإنسان، يصبح غير قادر، لم يعد قلبه يحتمل فيتسائل...ألسنا أحق بيد خضراء تطمئننا؟ ألسنا أحق بأن يهتم أحد بنا؟ أن نظهر ضعفنا ولو مرة واحدة فقط.

 أتعلمين أن أكثر ما يخيفني في المستقبل هو الفشل، لطالما فشلت وبعد كل محاولة أعود ولم يصبنيّ اليأس ولو لمرة واحدة، أعود أقوى، إلا هذه المرة ربما لن أعود أبدًا، ماذا إن لم أستطع الوصول لما أريده؟، ماذا إن فشلت معكِ؟...في مرة راسلنيّ صديقٌ وهو يجيد الكتابة أيضًا.

طلب أن أكتب رسالة يعترف بها لفتاة يحبها، لأن كل المرادفات والاستعارات توقفت بعقله، ظللت أفكر حتى كأني أحببتها عوضًا عنه وكتبتها بكل ذرة حب بداخلي، توقعت نجاحها، ولكنها لم تكن تحبه، ففشل، أو بالأحرى فشلت أنا، ظللت طوال الليل ألوم نفسي أن رسالتي لما تكن جيدة كفاية لتأسر قلبها، فأخشي مستقبلي معك، أو تحديدًا نفس الأمر معك.

 أحيانًا تنسكب كلمات مني رغم أنفيّ، كأنها تقول:

 -سأخرج ولتذهب أنت للجيحم، إن الإنسان في حاجة أحيانًا أن يظهر ضعفه، أن يشعر بكونه بشر، أن يتحدث عن مخاوفه بدون ارتياب، بدون حساب، إن الإنسان الذي يخاف الأمل لا ينجح، والإنسان الذي يخشى الحب لا يعيش ولا يُحب، والإنسان الذي يدعي القوة ما هو إلا جبانٍ...فاكتب ولا تخشى الأمل ولا تتملص من حبك، وأعمل لنفسك، فلكل فشل عوض، ولكل سقوط رفعة، ولكل نجاح لذة، ولكل تجاوز رضا.

لقد أسرى بيَ الأَجلُ، و طُولُ مَسيرةٍ مَلَلُ

و طُولُ مَسيرةٍ من دون غايٍ مَطمحٌ خَجِلُ

أقول و رُّبما قول ٍيُدّلُ به و يُبتهلُ
ألا هل تُرجِعُ الأحلام ما كُحِلت به المُقَلُ؟
و هل ينجاب ُعن عينّي ليلٌ مُطبِقٌ أَزَلُ
ألا هل قاطعٌ يصلُ لما عيّت به الرُّسُلُ؟
و يا أحبابي الأغنين من قَطعوا و من وَصلوا
سلام ٌ كله قُـبَلُ ، كأنَّ صميمها شُعَلُ
و شوقٌ من غريبِ الدارِ أعيت دُونَه السُّبُلُ
مُقيمٌ حيث يضطرب المُنى و السعي و الفشل
و حيث يُعارك البلوى ، فتلويه و يعتدل
و حيث جبينه يَبَسٌ ، و حيث جِنَانه خَضِلُ
سلام ٌ من أخي دَنَفٍ تناهت عِندَهُ العِلَلُ
وحيد ٌغير ما شَجَن ٍ بلوح الصدرِ يعتملُ
و ذكرى مُرةٌ حَليِت بها أيامنا الأُوَلُ
وحيدٌ بالذي غنى و ساقَ يُضرَبُ المَثلُ
سلاماً أيها الأحباب ، إنّ محبة ً أَملُ
سلاماً كُلّه قُبَل ، كأَنَّ صَميمَها شُعَلُ
____________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
🟏 كنت تقابلت أنا وصديقي (محمد علاء) صدفةً بعد محاضرة في مستشفى الأمراض الباطنة إزاء (مستشفى القصر العيني الفرنساوي) وكنت جائعًا جدًا، اقترح أن نطلب "ساندويتش" بطاطس من أحد الكافتريات التي تقع في الدور الأرضي من مبنى المحاضرات النظرية، وعندما وصلنا، وصيته أن يخبر النادل ألا يضع (الماينويز) على طلبي لأني أكرهه، وبعد عشر دقائق كان الطاهي ينادي على أصحاب ال"ساندويتش" وكان (المياونيز) يسبح فوقهم، غلت دمائي ونهرت علاء وقلت له: ألم أخبرك أن تؤكد عليه ألا يضعه! اتصرف، كانت هؤلاء الفتيات ينظرن ويضحكن، فنبست شفاة أحدهم ب " por que tan serio".

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الأفق

أبجدية الياسمين