دفء الشتاء

 

 







أغتدي فجرًا، ولا تزل الطيور قاطنة في أوكارها، دقائق تمر، ومن ثم أرتدي ملابسي، على وشك الرحيل، تهرول إلي أمي "انتظر، لقد أعدت لك البطاطا المهروسة بالعسل، وقد تركت معها برتقالتين، تناولهم كلهم".

  ثم تضع وشاحًا وتخنقني به "هكذا، الدنيا بردٌ بالخارج"، أتخلص من قيدها وأحاول أن أُحل عقدة الوشاح الذي يخنقني، ثم تنادي مرة أخرى "عزيزي، كن بخير، وإن يومًا رأيت فتاة تعجبك، ابتسم في وجهها ولا تشعرها ببرودة الشتاء" فأنظر لها متعجبًا وأهمس "تقول لي ذلك مذ التحقت بالجامعة، مسكينة أمي".

  أمضي في طريقي، في مقعد المواصلات، نشق ضباب الريف، وسباب العامة يتساقط عليّ لأغلق النافذة، وأنا أتابع فقط لون الحقول الأخضر الباهت من وراء ضباب الشتاء، لطالما تمنيت أن أجرب إحساس الشوق للحقول، أبتعد عنها، لا أشق الضباب المحيط بها أبدًا، وأفتقد معها رائحة الشتاء أيضًا، ومنظر الطين المستحوذ على شوارعها، وأنسى صوت طرقعة الخشب المحروق القادمة من الجيرة في الشارع بالأسفل ولا أشم رائحته تغطي جوانب المنزل.

  أصل لوجهتي، أمتار قليلة تبعدني عن مبني المدرجات بالقصر العيني، الزحام رهيب، وصوت السيارات يجعل رأسي يننفجر من الصداع، عوادم السيارات تفعل في الجو أكثر ما يفعله الخشب المحروق في جوانب المنزل، تحول شتاء قريتنا المكفهر، إلى قيظ أغسطس، هذه الأجواء التي تجعلني أرضى بالطين والخشب المحروق والضباب...ووسط كل هذا أصادفك، لا ابتسم لك، وأنسى تمامًا نصيحة أمي وأمضي سريعًا.

    مبني مدرجات القصر العيني، الدور الثاني، في الزاوية التي أنطوي بها دائمًا، أضع البطاطا أمامي، ورأسي متكئة على يدي، وأسبح بأفكاري وأتخيل.

عزيزتي، لقد نام الأطفال، وأغُلقت الدكاكين، وأوقد الناس الخشب في الأسفل، لكن رائحة البطاطا ستغطي على رائحته، فلا تقلقي، والسماء لم تكف عن المطر، فلا تقلقي، ولقد أحكمت غلق الشبابيك، فلا تقلقي من لمسة البرد الناعمة، لن تحظى بك، تعال عزيزتي.

 طاولتنا الصغيرة، في ركن المنزل، كما اعتدت بالأمس أن انطوي وحيدًا، والبطاطا التي اعتدت تناولها بمفردي، أشاركها معك، وهذه يدي تمسك بيدك، صامتًا على غير عادتي، ولكن عيوني تنطق، وقلبي لا يتوقف عن الرقص، وصامتة كعادتك، لكنك مطمئنة على غير عادتك. 

  وهذه الستائر البيضاء المتدلية، تفصلنا عن الكون، الشتاء، الشارع، الضجيج، حتى صوت المطر، هكذا دائمًا ما كنت أتخيل دفء الشتاء، معك، تكلمي حبيبتي، فلا تزالِ كأول مرة رأيتك فيها، حينها كان العالم يمضي على رتيبة واحدة لا يتصاعد كنغمات " الكريشندو".

    كنت دائمًا أقول سأقع في الحب في فصل الشتاء، لكنني اليوم أعيش الحب ذاته معك، حبيبتي ما زلتِ هذه الفتاة الرقيقة التي رأيتها، وأهرب منها إليها، مشتعلة الكبرياء لكنها كقصيدة حب كتبت خصيصًا، شامخة في صمتك، تكلمي حبيبتي فلا يرانا أحد سوى عين الله.

تكلمي حبيبتي فلا يوجد من يسمعك سوايّ، ها أنذا يا حبيبتي قد سمعت نداءك من وراء البحر، فانتبهت، وسرت لك، ها أنا واقف تحت النخيل، وخلف الستائر، ومن وراء الطبيعة، تكلمي يا حبيبتي، تكلمي، لأن ظلمتك قد دحرت المخلوقات، وبقيت وحدي منتصبًا أمامك.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا أنت جاد هكذا؟

أنا الأفق

أبجدية الياسمين